عمل الكاتب عمر عبد المنان طبيب أطفال بريطاني مصري في هيئة الصحة الوطنية البريطانية لأكثر من خمسة عشر عامًا، وقادته رحلات سنوية إلى غزة للعمل مع أطباء محليين ورؤية أثر الحصار والقصف الإسرائيلي على صحة الأطفال.

عاش خبرة فقدان أطفال لأسباب يمكن الوقاية منها، لكنه لم يشهد من قبل هذا القدر من القسوة المدروسة، ولا هذا الصمت البارد من أطراف تدّعي احترام القانون الدولي وحقوق الطفل.

وفقًا لموقع ميدل إيست آي، رافق الكاتب في 30 يوليو فتى فلسطينيًا عمره 15 عامًا من غزة يُدعى مجد الشغنوبي، مع والدته وشقيقيه، من القاهرة إلى لندن لتلقي العلاج في مستشفى جريت أورموند ستريت للأطفال.

بقي والده وأخواه الآخران محاصرين في شمال غزة.

شارك الكاتب الرحلة دعمًا لمشروع "الأمل النقي" بالتعاون مع "كيندر ريليف"، وهما منظمتان تولّتا ترتيبات علاج مجد في مصر وتأمين نقله إلى المملكة المتحدة، في إنجاز يثبت ما يمكن لشبكات صغيرة من أشخاص مصممين تحقيقه حين تعجز الحكومات.

تحطم فك مجد السفلي جراء قصف، ويمتد على عنقه أثر واضح لفتحة تنفس جراحية أُجريت في مستشفى محاصر بغزة.

بقاؤه على قيد الحياة يعكس كفاءة الإجلاء العاجل وإصرار أطباء غزة وأسرته على إنقاذه وسط ظروف مستحيلة.

لكن قصته تذكّر بأن آلاف الأطفال المرضى أو المصابين في غزة ما زالوا عالقين بسبب رفض الحكومة البريطانية منحهم تأشيرات، مكتفية بالسماح بدخول حالات قليلة ذات أمراض خلقية، فيما تُترك حالات بتر وإصابات قصف وفشل كلوي وسوء تغذية للموت.

هذا الواقع يجسد سياسة قائمة على نزع الإنسانية، تترك الأطفال يتضورون جوعًا على الشاشات بينما تكتفي بريطانيا بالتفرج.

كل عملية إجلاء تخلّف ثمنًا خفيًا: عائلات ممزقة على الحواجز، وأطفال يحملون في أجسادهم الصغيرة مزيجًا من الأمل والفقد.

ملأت وجوه الأطفال الجائعين شاشات الإعلام البريطاني في الأشهر الأخيرة، لكن من عاش التواصل اليومي مع أطباء غزة وناشد الحكومات والهيئات المهنية يعرف أن هذه المآسي ليست جديدة، بل هي نتاج حملة ممنهجة من التجريد من الإنسانية، تدعمها وسائل الإعلام والحكومة البريطانية، وينفذها نظام فصل عنصري بلا محاسبة.

ولو كان الضحايا من الإسرائيليين أو الأوكرانيين أو البريطانيين، لما حدث ذلك، لكن حياة الفلسطينيين – وخاصة الأطفال – تُعامل كأنها قابلة للإلغاء.

كل ندبة على وجه مجد تحكي قصة نظام يمنح رخصة لإلقاء القنابل التي تحطم الفكوك، ويمنع الأدوية والوقود عن المستشفيات، ويكتفي بالكلمات الفارغة بينما يرفض منح التأشيرات للأطفال الذين ساهم في إصابتهم.

التجويع، والبتر، والكسور ليست أخطاء عرضية، بل هي جوهر هذا النظام.

وقبيل صعود الطائرة، عاش مجد وإخوته لحظة اكتشاف لا يمكن لهذا النظام أن ينتزعها.

كانت أول مرة يدخلون فيها مطارًا، وأبهرتهم السلالم المتحركة، فتسابقوا عليها ضاحكين، للحظات قصيرة اختفى وقع الحرب، وصاروا أطفالًا عاديين يكتشفون العالم.

تلك الضحكة العفوية، ويد الأخ الممسكة بشقيقه، تحولت إلى فعل مقاومة صامتة، تذكّر بأن براءتهم وقدرتهم على اللعب وتخيل مستقبل خارج الركام هي بحد ذاتها ثبات وصمود.

لا تستطيع إسرائيل أن تنتزع ما رآه الكاتب في المطار: دهشة العيون، وضحكة تتسلل وسط شهور من الرعب، وإصرار على الحياة يتجسد في لعبة عادية. وجود هؤلاء الأطفال ومواصلة حياتهم بحد ذاتهما مقاومة.

الواجب تجاههم يتجاوز العمل الخيري إلى تحقيق العدالة، بفتح أبواب بريطانيا فورًا أمام كل طفل مصاب في غزة، وتأسيس برنامج إجلاء وعلاج ممول حكوميًا على غرار ما حظي به اللاجئون الأوكرانيون، مع تسخير البنية التحتية والخبرة الطبية المتوفرة.

كما يشمل إنهاء مبيعات الأسلحة التي تجعل إصاباتهم حتمية، ومواجهة العنصرية التي تجعل حياتهم قابلة للتفاوض، وهدم النظام الذي يقرر أي الأرواح تُنقذ وأيها تُمحى.

وأثناء الرحلة، جلس مجد وإخوته بهدوء ممسكين بما تبقى لهم من متاع، ليُدرك الكاتب أن ما يُدمَّر من بيوت ومستشفيات وأحياء، لن ينال من براءتهم وصمودهم وإصرارهم على الوجود.

https://www.middleeasteye.net/opinion/britain-finally-realising-palestinian-children-are-human